فصل: قال في ملاك التأويل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)}
قوله تعالى: {وَكُلَّمَا مَرَّ}: العامل في {كلما} سَخِر، وقال مستأنف؛ إذ هو جوابٌ لسؤال سائل. وقيل: بل العامل في {كلما}: {قال}، و{سخروا} على هذا: إمَّا صفة لَمَلأ، وإمَّا بدلٌ مِنْ {مرَّ}، وهو بعيدٌ جدًا، إذ ليس {سَخِرَ} نوعًا من المرور ولا هو هو فكيف يُبدل منه؟ والجملةُ من قوله: {كلما} إلى آخره في محلِّ نصب على الحال أي: يصنع الفلك والحالُ أنه كلما مرَّ.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)} قوله تعالى: {مَن يَأْتِيهِ}: في {مَنْ} وجهان، أحدهما: أن تكونَ موصولةً. والثاني: أن تكونَ استفهاميةً، وعلى كلا التقديرين ف {تعلمون}: إمَّا من باب اليقين فتتعدَّى لاثنين، وإمَّا من باب العرفان فتتعدَّى لواحد. فإذا كانت هذه عرفانيةً و{مَنْ} استفهامية كانت {مَنْ} وما بعدها سادَّة مسدَّ مفعول واحد، وإن كانَتْ متعديةً لاثنين كانت سادَّة مَسَدَّ المفعولين، وإذا كانت {تعلمون} متعديةً لاثنين و{مَنْ} موصولة كانت في موضع المفعول الأول، والثاني محذوف. قال ابن عطية: وجائز أن تكونَ المتعديةَ إلى مفعولين، واقتصر على الواحد وهذه العبارةُ ليست جيدةٌ؛ لأن الاقتصَارَ في هذا الباب على أحد المفعولين لا يجوز؛ لِما تقرَّر غيرَ مرة من أنهما مبتدأٌ وخبر في الأصل، وأمَّا حَذْفُ الاختصار فهو ممتنعٌ أيضًا، إذ لا دليلَ على ذلك. وإن كانت متعديةً لواحد و{مَنْ} موصولةٌ فأمرُها واضح.
وحكى الزهراوي: {ويَحُلُّ} بضم الحاء بمعنى يجب.
و{التنور} معروفٌ. وقيل: هو وجهُ الأرض. وهل أل فيه للعهدِ أو للجنس؟ ووزنَ تَنُّور قيل: تَفْعُول مِنْ لفظ النور فقُلبت الواوُ الأولى همزةً لانضمامِها، ثم حُذِفت تخفيفًا، ثم شددوا النون كالعوضِ عن المحذوف، ويُعزَى هذا لثعلب. وقيل: وزنه فَعُّول ويعزى لأبي علي الفارسي. وقيل: هو أعجمي وعلى هذا فلا اشتقاقَ له. والمشهورُ أنه مما اتَّفق فيه لغة العرب والعجم كالصابون.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ}
قوله تعالى: {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ}: قرأ العامة بإضافة {كل} لزوجين. وقرأ حفص بتنوين {كل}. فأمَّا العامَّة فقيل: إن مفعول: {احمل}: {اثنين} و: {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنٍ} في محل نصب على الحال من المفعول لأنه كان صفةً للنكرة فلما قُدِّم عليها نُصب حالًا. وقيل: بل {مِنْ} زائدة، و{كل} مفعول به، و{اثنين} نعت لزوجين على التأكيد، وهذا إنما يتمُّ على قول مَنْ يرى زيادةَ {مِنْ} مطلقًا، أو في كلامٍ موجب. وقيل: قوله: {زوجين} بمعنى العموم أي: من كل ما لَه ازدواجٌ، هذا معنى قوله: {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنٍ} وهو قول الفارسي وغيره. قال ابن عطية: ولو كان المعنى: احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين لوجب أن يَحْمل من كلِّ نوعٍ أربعةً، والزوج في مشهور كلامهم للواحد مما له ازدواجٌ.
وأمَّا قراءة حفص فمعناها من كل حيوان، و: {زوجين} مفعول به، و: {اثنين} نعتُ على التأكيد، و: {مِنْ كلٍ} على هذه القراءة يجوز أن يتعلق ب: {احمل} وهو الظاهر، وأن يتعلق بمحذوف على أنها حال من: {زوجين} وهذا الخلافُ والتخريجُ جاريان أيضًا في سورة: {قَدْ أَفْلَحَ} [المؤمنون: 27].
قوله: {وَأَهْلَكَ} نسق على: {اثنين} في قراءة مَنْ أضاف: {كل} لزوجين، وعلى: {زوجين} في قراءة مَنْ نوَّن: {كلًا} وقولُه: {إِلاَّ مَن سَبَقَ} استثناءٌ متصل في موجَب، فهو واجبُ النصب على المشهور. وقوله: {وَمَنْ آمَنَ} مفعول به نسقًا على مفعول: {احمِلْ}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} (هود: 40)، وفي سورة: {قد أفلح المؤمنون} {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ...} (المنؤمنون: 27). للسائل أن يسأل عن قوله في سورة هود: {قُلْنَا احْمِلْ} وفي السورة الثانية: {فَاسْلُكْ} والقصة واحدة فهل ذلك بمقتض لكل واحد من الموضوعين بما وقع فيه؟
والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن لفظ احمل أوسع مواقع في اللغة وأكثر تصرفًا في الكلام تقول: حملت الشيء إلى فلان، وحملته على كاهلي، وحملت العلم عن فلان، وحمل فلان الأمانة، وحمله الغضب على كذا، وحمِل الفارس على صاحبه، وحملت المرأة والشجر، ولا تقول في شيء من هذا سلك إلا أن يكون المحصور فيه حسبما تعاقب سلك وحمل إن لم يعرض في المعنى ما يمنع. وأما سلك فإن العرب تقول: سلكت الشيء في الشيء وأسلكته أي أدخلته قال الله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} (القصص: 32)، أي أدخلها، وقال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (المدثر: 42) أي ما أدخلكم، وقال تعالى: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (الجن: 17) أي ندخله فيه، وكل ما يخرج سلك عن هذا المعنى من الدخول حقيقة ومجازًا، ففيها من حيث معنها الخصوص، وأما حمل ففيها اتساع لا يكون في سلك. فوجه ورودها في سورة هود مناسبتها من حيث المعنى من حيث ما اقترن بها من لفظ: (قلنا)، فطال الكلام لفظا مع ما أشرنا إليه من سعة المحامل، وإن لم يرد جميعها هنا، لكن ناسب مجموع هذه العبارة ما ورد في سورة هود من إستيفاء قصة نوح، عليه السلام، وطول الكلام بذلك.
وأما آية المؤمنون ففي قصة نوح فيها إيجاز وإجمال، إلا ترى أنها في كلمها وعدد حروفها- أعني آية هود- على الضعف أو أطول مما في سورة المؤمنون، فلذلك ورد في سورة المؤمنون لفظ (اسلك) لإيجازه من حيث معناه وعروه عن (اقتران) لفظ (قلنا) أو غيره مما يحرز الطول، بخلاف ما في سورة هود. ومما يعضد هذا المقصود ويشهد له قوله تعالى في سورة هود: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} (هود: 40)، وفي سورة المؤمنون: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} (المؤمنون: 27). فتأمل تنظير (حتى) وهي على أربعة أحرف بفاء التعقيب في سورة المؤمنون في قوله: {فإذا}، وإنما الفاء على حرف واحد، فنوسب بالفاء موضعها المبنى على الإيجاز، وبحتى موضعها المبني على الاستيفاء والطول، فقد وضح ورود كل من ما في السروتين على ما يجب ويناسب، والله سبحانه أعلم بما أرد. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)} لما تَحقَّق بما أمر اللَّهُ به لم يأْبَه عند إمضاءِ ما كُلِّفَ به بما سَمِعَ من القيل، ونظر إلى الموعود بطَرْفِ التصديق فكان كالمُشاهِد له قبلَ الوجود.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)} لا طاعةَ لمخلوقٍ في مقاساة تقديره- سبحانه- إلا من تحمل عنه بفضله ما يحمله بحُكْمه.
قوله جلّ ذكره: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ}.
طال انتظارُهم لِمَا كان يَتَوَعَّدُهم به نوحٌ عليه السلام على وجه الاستبعاد، ولم يَزِدْهُم تطاولُ الأيامٍ إلا كفرًا؛ وصَمَّمُوا على عقد تكذيبهم. ثم لمَّا أتاهم الموعودُ إياهم بغتةً، وظهر من الوضع الذي لم يُحِبُّوه فآرَ الماءُ من التنور المسجور، وجادت السماءُ بالمطر المعبور: {قُلْنَا احْمِل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَينِ}: استبقاءً للتناسل.
ويقال: قد يؤْتَى الحَذِرُ من مَأْمَنِه؛ فإن إبليسَ جاء إلى نوح عليه السلام. وقال: احْمِلني في السفينة فأَبَى نوحٌ عليه السلام، فقال له إبليس: أَمَا عَلِمْتَ أَني من المُنْظَرين إلى يوم معلومٍ، ولا مكانَ لي اليومَ إلا في سفينتك؟ فأوحى الله إلى نوح أن يَحْمِلَه معه.
ويقال لم يكن لابن نوح معه مكان، وأُمِرَ بِحَمْل إبليس وهو أصعب الأعداء! وفي هذا إشارة إلى أن أسرار التقدير لا تجري على قياس الخَلْق؛ كأنه قيل له: يا نوح... ابنك لا تحمله، وعدوك فَأدْخُلْه، فالله سبحانه فعَّالٌ لما يريد.
قوله جلّ ذكره: {إلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إلاَّ قَلِيلٌ}.
{إلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيهِ الْقَوْلُ} بالشقاوة. وفيه تعريف بأن حُكْمَ الأَزَل لا يُرَدُّ، والحقُّ-سبحانه- لا يُنَازَعُ، والجبَّارُ لا يُخَاصَمُ، وأن مَنْ أقصاه ربُّه لم يُدْنِه تنبيهٌ ولا بِرٌّ ولا وعظ.
{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قِلِيلٌ} ولكن بَارَكَ الحقُّ- سبحانه- في الذين نجَّاهم من نَسْلِه، ولم يدخل خَللٌ في الكونِ بعد هلاكِ مَنْ أَهْلَك مِنْ قومه. اهـ.

.تفسير الآيات (41- 43):

قوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أتاه الأمر بذلك، بادر الامتثال فجمع من أمره الله به إلى السفينة بعد أن هيأها لهم: {وقال} أي لمن أمر بحمله: {اركبوا} ولما كانت الظرفية أغلب على السفينة قال: {فيها} أي السفينة؛ ولما أمرهم بالركوب فركبوا، استأنف قوله، أو أمرهم بالركوب قائلين: {بسم الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة: {مجراها ومرساها} أي إجرائها وإرساءها ومحلهما ووقتهما، وقرأ الحسن وقتادة وحميد العرج وإسماعيل بن مجالد عن عاصم بكسر الراء والسين كسرًا خالصًا بعده ياءان خالصتان على أن الاسمين صفتان للجلالة؛ ثم علل نجاتهم بالإجراء والإرساء اعترافًا بأنه لا نجاة إلا بعفوه بقوله: {إن ربي} أي المحسن إلي بما دبر مني هذا الأمر وغيره، وزاد في التأكيد تطبيقًا لقلوب من معه معرفًا لهم بأن أحدًا لن يقدر الله حق قدره وأن العبد لا يسعه إلا الغفران فقال: {لغفور} أي بالغ الستر للزلات والهفوات: {رحيم} أي بالغ الإكرام لم يريد، فركبوها واستمروا سائرين فيها يقولون: بسم الله: {وهي} أي والحال أنها: {تجري بهم}.
ولما كان الماء مهيئًا للإغراق، فكان السير على ظهره من الخوارق، وأشار إلى ذلك بالظرف فقال: {في موج} ونبه على علوه بقوله: {كالجبال} أي في عظمه وتراكمه وارتفاعه، فالجملة حال من فركبوها، المقدر لأنه لظهوره في قوة الملفوظ، وكان هذه الحال مع أن استدامة الركوب ركوب إشارة إلى شرعة امتلاء الأرض من الماء وصيرورته فيها أمثال الجبال عقب ركوبهم السفينة من غير كبير تراخ، قالوا: وكان أول ما ركب معه الذرة، وآخر ما ركب معه الحمار، وتعلق إبليس بذنبه فلم يستطع الدخول حتى قال له نوح عليه السلام: ادخل ولو كان الشيطان معك- كذا قالوا، وقيل: إنه منع الحية والعقرب وقال: إنكما سبب الضر، فقالا: احملنا ولك أن لا نضر أحدًا ذكرك، فمن قال: {سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين} [الصافات: 79-80] لم تضراه.
ولما كان ابتداء الحال في تفجر الأرض كلها عيونًا وانهمار السماء انهمارًا- مرشدًا إلى أن الحال سيصير إلى ما أخبر الله به من كون الموج كالجبال لا ينجي منه إلا السبب الذي أقامه سبحانه، تلا ذلك بأمر ابن نوح فقال عاطفًا على قوله: {وقال اركبوا}، {ونادى نوح ابنه} أي كنعان وهو لصلبه- نقله الرماني عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك: {وكان} أي الابن: {في معزل} أي عن أبيه في مكانه وفي دينه لأنه كان كافرًا، وبين أن ذلك المعزل كان على بعض البعد بقوله: {يا بني} صغَّره تحننًا وتعطفًا: {اركب} كائنًا: {معنا} أي في السفينة لتكون من الناجين: {ولا تكن} أي بوجه من الوجوه: {مع الكافرين} أي في دين ولا مكان إشارة إلى أن حرص الرسل عليهم السلام وشفقتهم- وإن كانت مع رؤية الآيات العظام والأمور الهائلة- ليست سببًا للين القلوب وخضوع النفوس ما لم يأذن الله، انظر إلى استعطاف نوح عليه السلام بقوله: {يا بني} مذكرًا له بالنبوة مع تصغير التحنن والتراؤف وفظاظة الابن مع عدم سماحه بأن يقول: يا أبت، ولم يلن مع ما رأى من الآيات العظام ولا تناهى لشيء منها عن تقحم الجهل بدلًا من العلم وتعسف الشبهة بدلًا من الحجة.
ولما كان الحال حال دهش واختلال.
كان السامع جديرًا بأن لا يصبر بل يبادر إلى السؤال فيقول: فما قال؟ فقيل: {قال} قول من ليس له عقل تبعًا لمراد الله: {سآوي إلى جبل يعصمني} أي بعلوه: {من الماء} أي فلا أغرق: {قال} أي نوح عليه السلام: {لا عاصم} أي لا مانع من جبل ولا غير موجود: {اليوم} أي لأحد: {من أمر الله} أي الملك الأعظم المحيط أمره وقدرته وعلمه، وهو حكمه بالغرق على كل ذي روح لا يعيش في الماء: {إلا من رحم} أي إلا مكان من رحمة الله فإنه مانع من ذلك وهو السفينة، أو لكن من رحمه الله فإن الله يعصمه.
ولما ركب نوح ومن أمره الله به وأراده.
ولم تبق حاجة في تدرج ارتفاع الماء، فعلًا وطمًا وغلب وعتًا فهال الأمر وزاد على الحد والقدر، قال تعالى عاطفًا على ما تقديره: فلم يسمع ابنه ذلك منه بل عصى أباه كما عصى الله فأوى إلى الجبل الذي أراده فعلًا الماء عليه ولم يمكنه بعد ذلك اللحاق بأبيه ولا الوصول إليه: {وحال بينهما} أي بين الابن والجبل أو بينه وبين أبيه: {الموج} المذكور في قوله: {في موج كالجبال}، {فكان} أي الابن بأهون أمر: {من المغرقين} وهم كل من لم يركب مع نوح عليه السلام من جميع أهل الأرض؛ قال أبو حيان: قل كانا يتراجعان الكلام فما استتمت لمراجعة حتى جاءت موجة عظيمة وكان راكبًا على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه وحيل بينه وبين نوح عليه السلام فغرق- انتهى.
والركوب: العلو على ظهر الشيء، ركب الدابة والسفينة والبر والبحر؛ والجري: مر سريع؛ يقال: هذه العلة تجري في أحكامها، أي تمر من غير مانع، والموج جمع موجة- لقطعة عظيمة من الماء الكثير ترتفع عن حملته، وأعظم ما يكون ذلك إذا اشتدت الريح؛ والجبل: جسم عظيم الغلظ شاخص من الأرض هو لها كالوتد؛ والعصمة: المنع من الآفة: {وقيل} أي بأدنى إشارة بعد هلاك أهل الأرض وخلوها من الكافرين وتدمير من في السهول والجبال من الخاسرين، وهو من إطلاق المسبب- وهو القول- على السبب- وهو لإرادة- لتصوير أمر ومأمور هو في غاية الطاعة فإنه أوقع في النفس. اهـ.